Saturday, July 29, 2006

حكم بن عطاء الله السكندري - الحكمة الخامسة


اجتهادك فيما ضُمن لك، و تقصيرك فيما طُلب منك، دليل على انطماس البصيرة منك



شرح الحكمة:

نبدأ في شرح الحكمة بقول الله تعالى(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الذاريات: 56-58
ثم قوله تعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)طه: 132

تبين الآيتان نقطتين مهمتين:
1- الإنسان مطالب بممارسة العبودية لله عز و جل بسلوك اختياري لأنه خُلق عبداً بالواقع الاضطراري.
2- الله ضمن للعبد مقومات حياته و رغد عيشه.

فابن عطاء الله السكندري يقول أنه إذا انصرف الإنسان إلى إرهاق نفسه فيما ضمن الله له من رزق، فذاك يدل على عدم الثقة بوعد الله.
إن مما يجب علمه هو أنه ما من مخلوق إلا و أقامه الله تعالى على وظيفة (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى )طه:50.

و الإنسان ليس استثناء من هذه القاعدة، لكن الفرق بينه و بين سائر المخلوقات أنها تمارس وظيفتها بالقهر و الاضطرار و الغريزة، أما هو حر ذو إرادة، لكنه قد يستعمل حريته للتمرد على الله عز و جل، و على الوظيفة التي أقامه الله فيها، فيشرد عنها و لا يقوم بها.

لكن أي وظيفة أقام الله فيها الإنسان؟
و الجواب هو عمارة الأرض التي أحياه الله فيها على النحو الذي بينه الله له، و ذلك بتحقيق شيئين اثنين:
-ممارسة العبودية لله.
-عمارة الأرض على وجه سليم بإسعاد الناس.

و لتحقيق ذلك فإن الله ضمن للإنسان مقومات عيشه و أدار الكون لخدمته، لكن الإنسان يعرض عن هذه الوظيفة و يتمرد عليها، و من مظاهر هذا التمرد مثلا:
-أن يهمل المرء أسرته مدعيا ألا وقت له لرعايتهم و تربيتهم (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) طه: 132
-أن ينصرف إلى اللهو و يعرض عن العمل الصالح، و ينسى قوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) النحل: 97
-أن يطلب النصرة من أسباب خارجية غير الله و ينسى قوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) النور: 55

فما عاقبة تخلي المسلمين عن وظيفتهم؟
النتيجة بكل بساطة، ذل و هوان...هكذا نطقها عمر رضي الله عنه:"نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما طلبنا العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله". فالرعيل الأول حين صدق الله و قام بوظيفته على أحسن حال، أنجز الله وعده و نصرهم على قوتين كبيرتين آنذاك عما الروم و الفرس. لقد نطق عمر رضي الله عنه كلمته و هو فاتح بيت المقدس و هم لا يكادون يعرفونه و هو لابس خرقة بها 12 رقعة، فأراد بذلك أن يقول أن المسلمين و إن كانوا مفتقرين إلى أدنى مقومات النصر المادية، فإن الوعد الإلهي أُنجز لأنهم صدقوا الله و قاموا بوظيفتهم على أكمل وجه.

وقد يسأل سائل: ألا يتعارض ما قيل مع الحكمة الثانية التي تدعو إلى التعامل مع الأسباب؟؟
و الجواب أن التعامل مع الأسباب ضروري شرط ألا يصرفه ذلك عن القيام بواجباته الدينية من صلاة جماعة و ورد و تربية الأولاد. فالفرد عليه الإقبال على الواجبات الدينية التي كلفه الله بها، و في نفس الوقت يقبل على دنياه و يكسب رزقه تلبية لأمر الله بالسعي إليه، فهو مُثاب على ذلك، تحقيقا لقول الله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)الملك: 15

بقيت الإشارة أخيراً إلى أن هذه الضمانة و الوعد الإلهي لمن أقام بوظيفته على أحسن وجه، هو صالح كذلك للمجتمعات، و التاريخ خير شاهد لما تمسك الرعيل الأول بدينه، ثم لا يسع إلا أن ينظر المرء إلى خال أمته لما أخلن بوظيفتها (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) إبراهيم: 13-14

Wednesday, July 19, 2006

حكم بن عطاء الله السكندري - الحكمة الرابعة


أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك


شرح الحكمة:

هذه حكمة متممة للحكمتين السابقتين و تصب كذلك في مسائل القضاء و القدر.

إن رجعنا إلى الحكمة الثانية التي تدعو إلى التعامل مع الأسباب، إن نحن أٌقمنا في عالم الأسباب، فإن هذه الحكمة توحي في البدء أنها تدعو إلى عكس ذلك، حين تدعو إلى إراحة النفس من هم التدبير...

و الواقع أن لا فرق بينهما فالتعامل مع الأسباب هو جهد عضلي مادي يبذله المتعامل معها، و التدبير هو عمل فكري و قرار عقلي و معناه أن الإنسان يتعامل مع الأسباب بالخطط و النتائج و العمليات الحسابية، و أن عقله هو مفتاح النجاح...و هذا هو نهج المسلم يتعامل مع الأسباب و يقبل إليها إقبالا شديدا و لا يأل جهدا في ذلك و في نفس الوقت يستسلم موقنا بقضاء الله و يرضى بحكمه...

و انظر إلى قدوتنا سيد الخلق أجمعين و حبيبنا محمد صلى الله عليه و سلم في الهجرة النبوية و قد أعد كل الأسباب المادية لنجاح هجرته (خرج متخفيا، و أمر عليا كرم الله وجهه أن يبيت في فراشه، و سلك طريقا مخالفا، و أمر راعي أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن يسير بغنمه كي تمحو الآثار، و اختار دليلا خبيرا ) ثم كان هناك تدبير الله عز و جل لما وصل المشركون إلى غار ثور و حينها همس النبي صلى الله عليه و سلم إلى صاحبه "ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)، و كذا لما أدركهما سراقة، فحماه الله منه، و انغرست حوافر الخيل في رمال الصحراء.
فالنبي صلى الله عليه و سلم مارس الأسباب و تعامل خضوعا لأمر الله و انسجاما مع النظام الكوني الذي أقامه الله عز و جل، ثم نسي الأسباب و قيمنها، و ربط النتائج في يقينه الاعتقادي بحكم الله و لطفه مع ثقته التامة بحكمته و رحمته و توفيقه.

لكن، و هذا هو مربط الفرس...
هل نستطيع أن نخضع شعورنا و سلوكنا لهذه الحكمة ؟؟
و الجواب أنه ليس من اليسير فعل ذلك، لأن الإنسان بطبعه ميال إلى وضع نفسه وضع المدبر و الذي ينتظر نتائجه وفقا لما خطط له، فإن فشل في ذلك أصابه القلق و ضعف إيمانه و أثر ذلك على عبادته لله عز و جل...

فما علاج ذلك، و ما السبيل إلى التفاعل العملي مع هذه الحكمة؟؟

إليكم هذه النقاط المعالجة إن شاء الله:

- الإكثار من ذكر الله
- ربط النعم بالمنعم عز و جل
- التزام ورد من القرآن بتدبر و تأمل
- البعد عن الفواحش و المعاصي

و هذا العلاج ينمي إن شاء الله في المرء محبة الله و يزيده ثقة في حكمة الله و رحمته و لطفه

والخلاصة إن عليك العمل وترك النتائج علي الله سبحانه وتعالي
" إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أنا لا نضيع أجر من أحسن عملا"
-الكهف 30-

Monday, July 10, 2006

حكم بن عطاء الله السكندري - الحكمة الثالثة


سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار



شرح الحكمة:

هذه حكمة تتمم الحكمة التي قبلها...

الهمم هي العزائم التي يمتع الله بها في مجال الإقبال على شؤونهم الحياتية، و مهما اشتدت و قويت هذه العزائم فإنها لا تخرق أسوار الأقدار...

هذه الحكمة تثير مسألة القضاء و القدر.

و لنعرف بدءا القضاء و القدر:
فالقضاء هو علم الله الأزلي بكل ما يجري في المستقبل.
و القدر هو وقوع الأشياء طبقا لهذا العلم الأزلي.

و هذان المعنيان (أي القضاء و القدر) منها ما يقع دون أن يكون للإرادة الإنسانية دخل كالموت و المصائب و الأمراض و العاهات، و منها ما يقع على إثر إرادة و قصد من الإنسان كالدراسة و التجارة و الزراعة.

و كلا النوعين هما في علم الله، و يخضعان لقضاء الله و قدره، و هذه الحكمة تجيب على من يعكف على سبب من أسباب الرزق في عمل غير مشروع، و يحتج أن الله أقامه في عالم الأسباب و أن عليه السعي للبحث عن الرزق، فتأتي هذه الحكمة لتقول لهذا الشخص أن رزقه كثيرا كان أم قليلا، فإنه مكتوب في علم الله، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الذاريات: 58 و في آية أخرى (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ) العنكبوت:17، و في الحديث الذي رواه الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتْبِ رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد…)

و هنا قد يسأل سائل: إن كان الرزق مسطرا في علم الله ففيم السعي وراءه إذن و لماذا نتعامل مع الأسباب؟؟
و الجواب لأن الله عز و جل أقامنا في خضم الأسباب و أمرنا بالتعامل معها مع اليقين أن الفاعلية (النتيجة) هي تبع لإرادة الله و حكمه، و كل القوانين و الأنظمة الكونية إنما هي من تدبير الله عز و جل، فانظر إلى الآيات التالية ( اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) البقرة: 255، و قوله عز و جل (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) الروم: 25، و قوله أيضا ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) فاطر:41.
فهذه الآيات تبين أن الأسباب إنما تستمد فاعليتها و نتيجتها من الله عز و جل.

ثم قد يسأل السائل، ففيم إذن التعامل مع الأسباب؟ لماذا نجلس فننتظر حكم الله و سلطانه؟؟
و الجواب أن التعامل مع الله يكون بالانسجام مع أوامره و التعامل مع نظامه، فإن جعنا نأكل، و إن مرضنا نتداوى، و إن ظمئنا نشرب، و مع كل هذا لا فاعلية إلا لله، و لا تأثير إلا بحكم الله . و انظر إلى قصة السيدة مريم العذراء حين أنبت الله لها التمر في غير ميعاده و أسقطها في حجرها لكن الله سبحانه أمرها بهز جذع النخلة (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) مريم:25، فقد أمرها بالقيام بوظيفة التعامل مع الأسباب، و هي هز جذع النخلة، و تكلف الله برزقها.

أما الأثر التربوي حين تتعامل شرعيا مع الأسباب، فهو اليقين الذي يملأ قليك، و لسانك الذي سيكون دائما في حالة شكر و حمد و ثناء عليه عز و جل، و تزداد ثقتك بالله و الطمأنينة إلى قضائه و قدره.

هكذا إذن يكون المسلم، يتعامل مع الأسباب مع اليقين التام في الله و قضائه و قدره، تنفيذا لوصية الرسول صلى الله عليه و سلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه مسلم (...استعن بالله و لا تعجز، و إن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان، و لكن قل قدر الله و ما شاء فعل)