Sunday, August 13, 2006

حكم بن عطاء الله السكندري - الحكمة السابعة


لا يشككنك في الوعد عدم وقوع الموعود و إن تعين زمنه،
لئلا يكون ذلك قدحاً في بصيرتك و إخماداً لنور سريرتك




شرح الحكمة:

إذا تصفح أحدنا كتاب الله عز و جل، فإنه يجد وعودا كثيرة لم تتحقق:
(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) غافر:51
(فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) إبراهيم: 13-14
(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) القصص:5

ثم يتساءل من بعد ذلك، لماذا لا تتحقق هذه الوعود؟ المسلمون مقهورون، و أعداؤهم يسرحون و يمرحون و لم يُهلكوا كما وعد الله في آياته؟

لكن...
ألا نتساءل: هل قُمنا بواجباتنا اتجاه الله عز و جل؟؟ هل إعمار المساجد، و ازدحام مكة بالحجيج دليل على قيامنا بواجياتنا؟
و الجواب لا، فإسلامنا غريب حتى في بيوتنا، ونحن بعيدون كل البعد عن الله تبارك و تعالى...

إن الإنسان كلما كان بعيداً عن الله منكبا على الدنيا، تقل أمام بصيرته حقوق الله عليه، و تتكاثر أمنياته التي قد يرى فيها حقا على الله، و كلما كان قريبا من ربه، تعظم أمام بصيرته حقوق الله، و تضمر حقوقه التي ربما يتخيل أنها حق له من الله.
نعم....فكلما زاد الإنسان قربا من الله، ازداد شعوراً بالتقصير. و انظر في ذلك مثال رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه و سلم، فقد كان أكثر الناس معرفة بربه، و كان دائم الاستغفار له.
و أنى لإنسان في هذه الحالة أن يرى لنفسه حقا يُطالب به، و هو مغمور بمشاعر تقصيره؟

و نتيجة هذا الكلام، أن الله لا يُخلف وعداً لمن وفى بشروطه...
انظر إلى قوله تعالى (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ) إبراهيم 13-14، و قوله تعالى (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) البقرة:40

ثم إن من سنن الله في الكون، أن الله قد يأخذ الكل بذنوب البعض. قال تعالى (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) الأنفال:25.

و انظر إلى هزيمة المسلمين في أحد و كيف جاءت نتيجة معصية ثلة صغيرة لأوامر الرسول صلى الله عليه و سلم. ثم انظر إلى غرور ثلة من المسلمين في غزوة حنين التي كادت أن تودي إلى الهزيمة.
ثم انظر...
إلى حالنا و المعاصي الكبيرة التي نعيش بها و قارن بينها و بين مخالفة المسلمين في غزوة أحد، ثم احمد الله على ألطافه أنه لم يأخذنا بذنوبنا و يعذبنا بها.

إن من يعتقد أننا نستحق موعودات الله، فإن ذلك دليل على انطماس بصيرته و خمود نور سريرته.
إن كان هذا حال المسلمين، فما بال أعدائهم ينعمون في المتع؟
و الجواب أن من سنن الله أيضا، فتح أبواب المتع أمام من انقطعت صلته بالله، و تسخير الدنيا لهم، فيزدادوا عتواُ و فسادا، فيأخذهم يعد ذلك أخذ عزيز مُقتدر. و انظر إلى آيات عديدة في كتاب الله عز و علا:
(رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ، ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) الحجر:2-3
(وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) الأعراف:182-183

(وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ) إبراهيم:42

(وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ) الأنعام: 42-44

و هاتان السنتان الكونيتان تفسران الحال الذي يعيش فيها العالم من تقهقر للمسلمين و تقلب أمم البغي و الضلال في النعم و المتع، فمن رأى أن الله لم ينجز وعوده بعد كل ما ذُكر، فإن ذلك دليل على انطماس البصيرة.



Saturday, August 05, 2006

حكم بن عطاء الله السكندري - الحكمة السادسة


لا يكن أمد تأخر العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجباً ليأسك،
فهو ضمن لك الاستجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختاره لنفسك،
و في الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد




شرح الحكمة:

ما هو الدعاء؟ و ما الفرق بينه و بين الطلب؟

الطلب هو وصف للفظ ينطق به الطالب،
أما الدعاء فهي حالة نفسية تعتري الطالب، فيسمى طلبه دعاء، و هذه الحالة النفسية تتحقق بشيئين:
1- يقظة القلب و المشاعر: و ذلك بإظهار مظاهر التذلل و الانكسار، فالدعاء يجب أن يُفهم أنه ليس بطقس ديني يُمارس بشكل اعتيادي، و إنما يجب إظهار مشاعر الافتقار إلى الله عز و جل، و هذا هو المقصود. و ليست العبرة بحفظ ورقات من "الأدعية المستجابة " و سردها، فإن لو يُستجب له، أبدى العتاب بقوله أنه دعا و لم يستجب الله له و قد قال رب العزة ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) غافر:60
2- التوبة إلى الله: و هي توبة من المعاصي و تكون نصوحة، متجددة، و يقدمها شفيعا بين يدي دعائه. و لنضرب في ذلك مثلا، و لله المثل الأعلى:
- تخيل نفسك أمام مديرك في العمل، و طلبت منه علاوة أو إذنا بالخروج، أو شيئا من هذا القبيل، مع أنه يعلم أنك لا تقوم بعملك على أحسن حال و تغش فيه و تأتي متأخرا إلى عملك، فهل سيستجيب لطلباتك؟
- ثم إننا في بعض المرات ندعو مع أنفسنا فيستجيب لنا الله بفضله، و ندعو مع غيرنا أو الأمة فلا يُستجاب لنا. ذلك أن هذا الشرط مفقودٌ في الأمة، أمة تائهة، ملأى بالعصاة و المستكبرين، فأنى يُستجاب لها وهذا مصداق قوله صلى الله عليه و سلم ( إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا " و قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ"ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب. ومطعمه ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذيَ بالحرام، فأنَّى يستجاب له ) رواه مسلم
فإن حققت شرطي الدعاء، كانت استجابة دعائك محققة بإذن الله.

لكن ما معنى الاستجابة؟
الاستجابة تكون للهدف و ليس بالوسيلة التي تراها أنت أو كما قال ابن عطاء الله "فهو ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختاره لنفسك " فالله هو عالم غيب السماوات و الأرض و يعلم مكمن الخير، فقد يكون ما طلبته و إن ظننت أن به الخير، فهو ينطوي على شر و هذا معنى قوله تعالى (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) البقرة:216. و هذا هو خطأ الإنسان الأول في الدعاء حين يظن الخير فقط فيما يدعو إليه بالحرف.

أما الخطأ الثاني في الدعاء فهو الاستعجال فيه، و مرد هذا الخطأ أننا نعتقد أن الدعاء هو وسيلة و ليست غاية في حد ذاته. فالدعاء هو أصلا عبادة، و بالتالي فهو غاية، و هي مظهر لاحتياجنا لربنا، فالإنسان عبد مملوك لربه، و هو محتاج في أي لحظة لسيده، و الأصل في الأمر أن يبقى هذا التذلل و الانكسار مظهرا دائما ملازما لنا نجدد به عبوديتنا لله عز و جل.

و هنا قد يسأل سائل: ما معنى قوله تعالى ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) غافر:60 ؟
و الجواب أن كلمة (ادعوني) هو أمر مطلق غير مرتبط بحالة معينة، بل هي حالة دائمة رخاء أو شدة، و ليست مرتبطة بشرط، أما الإحابة إنما هي تفضل من الله و كرم منه، و ليست ثمنا لدعائه، و هذا معنى قوله صلى الله عليه و سلم (يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول قد دعوتُ فلم يستجب لي) رواه الشيخان و أبو داود و الترمذي و ابن ماجه. و لعل ذلك من حكمة الله عز و جل أن يتأخر في الاستجابة كي يرى تذلل عبده بين يديه، و هذا مصداق قوله صلى الله عليه و سلم (الدعاء هو العبادة) رواه البخاري و أحمد و ابن حبان و الحاكم

و من ثم فهذا السلوك، أي سلوك الافتقار و إعلان الذل و الانكسار يجب أن يلتزم به المسلم دائما مع ثقته طبعا في كرمه عز و جل